الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **
فيها عم البلاء بمصر جميع الرؤساء والقضاة والكتاب والسوقة من الراهب بحيث لم يبق أحد إلا وناله مه مكروه إما من ضرب أو نهب أو أخذ مال. وكان يجلس في قاعة الخطابة من جامع عمرو بن العاص ويستدعي الناس للمصادرة. فطلب في بعض الأيام رجلا يعرف بابن الفرس من العدول المميزين المبجلين في الناس فأهانه وأخرق به فخرج إلى الجامع في يوم جمعة وقام على رجليه وقال: يأهل مصر انظروا عدل مولانا الآمر في تمكينه النصراني من المسلمين. فارتج الناس لكلامه وكادت تكون فتنة فاتصل ذلك بخواص الخليفة فأبلغوه إياه وخوفوه عاقبة ذلك وطالعوه بما حل بالخلق. وكان الراهب قد أخذ من شخص خادم يقال له جديحو سبعين ألف دينار بخرج من مائة ألف دينار فصار يشكو وكان كثير البضائع والتجارات والمقارضين فتظلم واشتهر أمره إلى أن بلغ خبره إلى أستاذ من أستاذى القصر له من العمر نحو مائة وعشرين سنة يقال له لامع وكان قد انقطع في منزله بالقصر بعد ما حج غير مرة وأنشأ جلبة بعيذاب يقال لها اللامعية تحمل الحاج فاتفق جواز الآمر على مكانه فسأل عنه فقيل له: إنه لا يستطيع النهوض إلى خدمتك. فدخل إليه وسأله عن حاله فقال: شغلي بسمعة مولانا أشد علي من نفسي. فقال له الآمر: لأي شيء فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تم عليهم من الشدة ما لا أحسن أصفه وربما نسب ذلك إليك. وشرح له أمر الراهب ابن أبي نجاح وصاحبي الديوان جعفر بن عبد المنعم المعروف بابن أبي قيراط وأبي يعقوب إبراهيم السامري الكاتب وما أخذوه من هذا الخادم. فحلف الآمر إنه ما علم أنهم بلغوا بالناس إلى هذا المبلغ وأنه يستدعي صاحبي الديوان في كل وقت ويحلفهما على المصحف وعلى التوراة وأن الراهب لم يجعل إلا مستوفياً لما يستخرج من الأموال وليس له معهما حديث ألبتة. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين إنهم قد اتفقوا على أذى الناس وقد جعلك الله خليفةً في الأرض واسترعاك على عباده وكل راع مسئول عن رعيته. فشق على الخليفة وعمل فيه كلام الأستاذ وخرج فمات بات حتى صرف صاحبي الديوان واعتقلهما ليستعيد منهما ما أخذاه للناس ظلماً واستدعى الراهب وكان بحضرته رجل من الأشراف إنّ الذي شرّفت من أجله يزعم هذا أنّه كاذب فقال الآمر للراهب: يا راهب ماذا تقول فسكت. فأمر حينئذ والي مصر بأخذه إلى الشرطة وضربه بالنعال حتى يموت. فمضى به إلى شرطة مصر وما زال يضرب بالنعال حتى مات فجر بكعبه إلى عند كرسي الجسر مسحوباً وسمر على لوح وطرح في بحر النيل فكان كلما وصل إلى ساحل من سواحل مصر وهو منحدر دفعوه إلى البحر فلم يزل حتى خرج إلى البحر الملح واشتهر ذكره وسارت الركبان بهلاكه. وكان هذا الراهب أولا من أشمون طناح وترهب على يد أبي إسحاق بن أبي اليمن وزير ابن عبد المسيح متولى ديوان أسفل الأرض ثم قدم إلى القاهرة واتصل بخدمة ولي الدولة أبي البركات يحنا بن أبي الليث كاتب المجلس. فلما قتل الوزير المأمون اتصل بالخليفة الآمر وبذل له في مصادرة الكتاب النصارى مائة ألف دينار فأطلق يده فيهم واسترسل أذاه حتى شملت مضرته كل أحد. وكان يعمل له في تنيس ودمياط ملابس مخصوصة به من الصوف الأبيض المنسوج بالذهب فيلبسها ومن فوقها غفارة ديباج ويتطيب بعدة مثاقيل مسك في كل يوم فكانت رائحته تشتم من مسافة بعيدة. وكان يركب الحمر الفارهة بالسروج المحلاة بالذهب والفضة ويجلس بقاعة ولما قتل وجد له في مقطع ثلثمائة طراحة سامان محشوة جدداً لم تستعمل قد رصت إلى قرب السقف وهذا من نوع واحد فكيف ما عداه! ولما قتل وعرف الآمر ما كان يعمل في الناس من أنواع الأذى خشي من الله واستحيا من الناس وكره مساءلة الفقهاء من الإسماعيلية عن ذلك وعن كفارة هذا الذنب لأنه إمام وشرط الإمام أن يكون معصوماً. فسير إلى الفقيه سلطان بن رشا شيخ الفقيه مجلى وكان خليفة الحكم مع من يثق به يستفتيه في أمر الراهب وما يكفر عنه فقال: يرد ما صار إليه من الأموال إلى أربابها. فرد عليه: إني والله ما أعرفهم ولا أقدر على ذلك ولكن أعتق الرقاب وأتصدق. فقال الفقيه: الخليفة قادر على أن يعتق ويتصدق ولا يتأثر لذلك ولكن يصوم فإنه عبادة شاقة على مثله. فقال: أصوم الدهر. فقال: لا ولكن الصوم الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم وفطر يوم. فقال: لا أقدر على ذلك. فقال: يصوم رجب وشعبان ورمضان. ففعل ذلك وتحرم في صومه وبره هذه الأشهر من كل ما ينكر في الديانة. في ربيع الأول ولد للآمر ولد سماه أبا القاسم الطيب فجعل ولي عهده وأمر فزينت القاهرة ومصر وعملت الملاهي في الإيوانات وأبواب القصور وكسيت العساكر وزينت القصور. وأخرج الآمر من خزائنه وذخائره قماشاً ومصاغاً ما بين آلات وأواني من ذهب وفضة وجوهر فزين بها وعلق الإيوان جميعه بالستور والسلاح. واستمر الحال على هذا أربعة عشر يوماً. وأحضر الكبش الذي يعق به عن المولود وعليه جل من ديباج وفي عنقه قلائد الفضة فذبح بحضرة الخليفة الآمر. وجيء بالمولود فشرف قاضي القضاة ابن ميسر بحمله ونثرت الدنانير على رءوس الناس. ومدت الأسمطة العظيمة بعد ما كتب إلى الفيوم والقيلوبية والشرقية فأحضرت منها الفواكه وملئ القصر منها ومن غيرها من ملاذ النفوس وبخر بالعنبر والعود والند حتى امتلأ الجو من دخانه. فيها تواترت الأخبار بتخويف الآمر من اغتيال النزارية وتحذيره منهم وإعلامه بأنه قد خرج منهم قوم من المشرق يريدون قتله فتحرز احترازاً كبيرا بحيث إنه كان لا يصل أحد من قطر من الأقطار إلا ويفتش ويستقصى عنه. وأقام عدةً من ثقاته يتلقون القوافل ليتعرفوا أحوال الواصلين ويكشفوا عنهم كشفاً جليا. وكلما اشتد الأمر كثر الخوف. واتصل به أن جماعةً من النزارية حصلوا بالقاهرة ومصر فاحترز وتحيل في قبضهم فلم يقدر لما أراده الله وفشا في الناس أمرهم وكانوا عشرة فخافوا أن يظفر بهم فاجتمعوا في بيت وقالوا إنه قد فشا أمرنا ولا نأمن أن يظفر بنا واشتوروا. فقال أحدهم: الرأي أن تقتلوا رجلاً منكم وتلقوا برأسه بين القصرين لتنظروا إن عرفها الآمر وكان عمره يوم قتل أربعاً وثلاثين سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما ومدة خلافته تسع وعشرون سنة وثمانية أشهر وخمسة عشر يوما وما زال محكوما عليه حتى قتل الأفضل فتزايد أمره عما كان عليه أيام الأفضل. فلما قبض على وزيره المأمون استبد بالأمور وتصرف في سائر أحوال المملكة وأكثر من الركوب ورتب لركوبه ثلاثة أيام من كل أسبوع وهي يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الثلاثاء فإذا لم يتهيأ له الركوب في أحد هذه الأيام ركب في يوم غيره. فكان يمضي أبداً في يومي الثلاثاء والسبت إلى النزهة في بستان البعل والتاج والخمس وجوه وقبة الهواء من ظاهر القاهرة أو إلى دار الملك بمصر أو بالهودج الذي أنشأه بجزيرة مصر التي يقال لها اليوم الروضة. وكان يتجول في أيام النيل في القصر بخدمه ويسكن في اللؤلؤة المطلة على خليج القاهرة. وكان الناس يوم ركوبه يخرجون من القاهرة ومصر بمعايشهم ويجلسون للنظر إليه فيكون كيوم العيد. وصار الناس مدة أيامه التي استبد فيها في لهو وعيش رغد لكثرة عطائه وعطاء حواشيه وأستاذيه لا سيما غلامه بزغش ورفيقه هزار الملوك جوامرد حتى إنه لا يكاد يوجد في مصر والقاهرة من يشكو زمانه لبسطهم الرزق بين الناس وتوسعهم في العطاء. ثم تنكد عيش الناس بقيام الراهب وكثرة مصادراته وشره حينئذ الآمر في أخذ أموال الناس فقبحت سيرته وكثر ظلمه واغتصابه لأملاك كثيرة من أملاك الناس مع ما فيه من التجرؤ على سفك الدماء وارتكاب المحذورات واستحسان القبائح. وفي أيامه ملك الفرنج كثيرا من المعاقل والحصون بسواحل البلاد الشامية فملكت عكا في شعبان سنة سبع وتسعين وعرقة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة واستولوا على مدينة طرابلس الشام بالسيف في يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين فتتيقنوا أن حلاكم قد ذكرت له فتعملوا الحيلة في فراركم من مصر وإن لم يعرفها فتطمئنوا حينئذ وتعرفوا أن القوم في غفلة. فقالوا: ما يتسع لنا قتل واحد منا ينقص عددنا وما بذاك أمرنا. فقال: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة من تلزمنا طاعته وما دللتكم إلا على نفسي. وأسرع بسكين فذبح بها نفسه فمات وأخذوا رأسه ورموها في الليل بين القصرين وأصبحوا ينظرون ما سبق فلما رئيت الرأس واجتمع الناس عليها لم يقل أحد إنه عرفها فحملت إلى الوالي فأحضر عرفاء الأسواق على أرباب المعايش وأوقفهم عليها فلم يعرفها أحد. فأحضر أصحاب الأرباع بالحارات فلم يعرفوها. ففرح النزارية واطمأنوا بالإقاقة في مصر لقضاء مرادهم. وكان الآمر كثير الفرج محبا للهو فركب في يوم الثلاثاء الرابع من ذي القعدة يريد أن يجيء إلى الهودج الذي بناه بجزيرة مصر لمحبوبته البدرية ومن العادة في الركوب أن يشاع في أرباب الخدم بالموكب جهة قصد الخليفة حتى لا يتفرقوا عنه فعلم النزارية أين يقصد فجاءوا إلى الجزيرة المذكورة ودخلوا فرناً قبالة الطالع من الجسر إلى البر ودفعوا إلى الفران دراهم ليعمل لهم فطيراً بسمن وعسل فبينما هم في أكله وإذا بالخليفة الآمر قد عبر من كرسي الجسر بمصر وجاز عليه وقد تفرق عنه الركابية ومن يصونه بسبب ضيق الجسر. فلما طلع من ذا الجسر يريد العبور إلى الجزيرة وثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه بالسكاكين وواحد منهم صار خلفه على كفل الدابة وضربه عدة ضربات. فأدركهم الناس وقتلوهم وكانوا تسعة وحمل الآمر في عشاري إلى اللؤلؤة وكانت أيام النيل فمات من يومه وحمل من اللؤلؤة وهو ميت إلى القصر. وخمسمائة وملكوا بانياس وجبيل بالأمان لثمان بقين من ذي الحجة منها. وملكوا قلعة تبنين في سنة إحدى عشرة وخمسمائة وتسلموا مدينة صور في سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وكثرت المرافعات في أيامه. واستخدم عدة من الكتاب الظلمة الأشرار وضمن أشياء لم تجر العادة بتضمينها وأخذ رسوماً لم تكن فيما تقدم. وعمل دكة عليها خركاة في بركة الحبش وعمر في بركة الحبش مكاناً سماه تنيس وموضعاً آخر سماه دمياط. وجدد قصر القرافة وعمل تحته مصطبة للصوفية فكان يجلس في أعلاه ويرقص أهل الطريقة قدامه والشمع موقود والمجامر تعبق بالبخور والأسمطة تمد بكل صنف لذيذ من الأطعمة والحلوى. وفرق في ليلة عند تواجد ابن الجوهري الواعظ وتمزيق رقعته على من حضر وعلى الفقراء ألف نصفية ونثر عليهم من الطاق ألف دينار تخاطفوها. وبنى الهودج لمحبوبته العالية البدرية في جزيرة الروضة. ولهذه البدرية وابن مياح من بني عمها مع الآمر أحاديث صارت كأحاديث البطال وشبهها قد ذكرتها عند جزيرة الروضة من هذا الكتاب. وكان المنفق في مطابخه وأسمطته شيء كثير فكان عدة ما يذبح له في كل شهر خمسة آلاف رأس من الضأن خاصة سوى ما يذبح مما سوى ذلك وثمن الرأس منها ثلاثة دنانير. وكان أسمر شديد السمرة يحفظ القرآن وخطه ضعيفاً. وكانت نفسه تحدثه بالسفر إلى الشرق والغارة على بغداد وأعد لذلك سروجاً مجوفة القرابيص وبطنها بصفائح من قصدير ليحمل فيها الماء وعمل لها فماً فيه صفارة فإذا دعت الحاجة إلى الماء شرب منه الفارس فكان كل سرج منها سبعة أرطال من ماء وعمل عدة من حجال الخيل من الديباج وقال في ذلك: دع الّلوم عني لست مني بموثق فلا بدّ لي من صدمة المتحقّق ومن شعره أيضا: أما والذي حجّت إلى ركن بيته جراهيم ركبانٌ مقلدةٌ شهبا لأقتحمنّ الحرب حتّى يقال لي ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا وينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيرضى بنا صحباً ونرضى به صحباً وكانت وزارة الأفضل بن أمير الجيوش وكان حاجراً عليه ليس له معه أمر ولا نهي ولا تعود له كلمة إلى أن قتل ثم وزر له المأمون محمد بن فاتك البطائحي فصار له في وزارته أمر ونهي وعادت الأسمطة على ما كانت عليه قديما وكان الأفضل قد نقلها فصارت تعمل أيام الأعياد والمواسم في دار الملك بمصر حيث كان يسكن. فلما قتل المأمون استبد ولم يستوزر أحداً ودامت له الدنيا. وقضاته: ابن ذكا النابلسي تم ولى أبو الفضل الجليس نعمة بن بشير فطلب الإقامة فولى بعده الرشيد أبو عبد الله محمد بن قاسم بن زيد الصقلي ومات فاستقر بعده الجليس نعمة بن بشير النابلسي مرة ثانية ثم صرف بأبي الفتح مسلم بن الرسعني وعزل بأبي الحجاج يوسف بن أبي أيوب المغربي فلما مات استقر من بعده أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر القيسراني وقتل الآمر وهو قاض. وكتاب الإنشاء في أيامه: سناء الملك أبو محمد بن محمد الزيدي الحسيني والشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة الحلبي والشيخ تاج الرئاسة أبو القاسم ابن الصيرفي وابن أبي الدم اليهودي. وكان نقش خاتمه: الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين. وفي أيامه نزع السعر فبلغ القمح كل أردب بدينار. وكان الناس قد ألفوا الرخاء في أيام الأفضل والمأمون وبعد عهدهم بالغلاء فقلقوا لذلك. ومن نوادر الآمر أنه عاشر الخلفاء الفاطميين وهو العاشر في النسب أيضا ولم يل عشرة على نسق واحد ليس بينه أخ ولا عم ولا ابن عم غير الآمر. وعرض عليه فصل في التوحيد من جملته: وهو المحذر بقوارع التهديد من يوم الوعد والوعيد فقال: إذا حذر من الوعد كما يحذر من الوعيد فما الفرق بينهما وأمر أن يقال: المحذر بقوارع التهديد من هول يوم الوعيد. واستدرك في فصل آخر في ذكر علي رضي الله عنه قوله: وهو السابق إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته فقال: إن قوله السابق غير مستقيم لأنه إن أراد التخصيص فذلك غير صحيح إذ كانت خديجة سبقت إلى الإسلام والسابق منهم جائز أن يكون واحداً وأن يكون جماعة والله تعالى يقول: وأمر أن يقال: أول سابق إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته. أبو الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد ولد بعسقلان في المحرم سنة سبع وقيل سنة ثمان وستين وأربعمائة لما أخرج المستنصر ابنه أبا القاسم مع بقية أولاده في أيام الشدة فكان يقال له الأمير عبد المجيد العسقلاني ابن عم مولانا. ولما قتل النزارية الآمر كان كبار غلمانه العادل بزغش وهزار الملوك جوامرد وينعت بالأفضل فعمدا إلى الأمير أبي الميمون عبد المجيد وكان أكبر الجماعة الأقارب سنا وقالا: إن الخليفة المنتقل قال قبل وفاته بأسبوع عن نفسه: المسكين المقتول بالسكين وأشار إلى أن الجهة الفلانية حامل منه وأنه رأى رؤيا تدل أنها ستلد ولداً ذكرا وهو الخليفة من بعده وأن كفالته للأمير عبد المجيد أبي الميمون. فجلس المذكور كفيلاً ونعت بالحافظ لدين الله في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة يوم قتل الآمر بأحكام الله وتقرر أن يكون هزار الملوك وزيراً وأن يكون الأمير السعيد أبو الفتح يانس الحافظي متولى الباب أسفهسلاراً وقرئ سجل في الإيوان بهذا التقرير والحافظ في الشباك جالس تولى قراءته قاضي القضاة ابن ميسر على كرسي نصب له أمام الحافظ بحضور أرباب الدولة. وخلع على هزار الملوك خلع الوزارة وقد اجتمع في بين القصرين خمسة آلاف فارس وراجل وفيهم رضوان بن ولخشي أحد الأمراء المميزين أرباب الشجاعة وهو رأس الجمع وفي داخل القاعة بالقصر أيضا جماعة فيهم بزغش وقد شق عليه تقدم هزار الملوك وتقلده الوزارة فنظر إلى أبي علي أحمد بن الأفضل الملقب كتيفات وهو جالس فقال: يا مولاي الأجل أنا أشح عليك أن تطيل الجلوس حتى يخرج هذا الفاعل الضانع وزيراً فتخدمه ويسومك المشي في ركابه اخرج إلى دارك وإذا قضى الله مضيت منها لهنائه. وكان ظاهر هذا القول مكارمة أبي علي وباطنه أنه علم أن أكثر العسكر الواقفين بين القصرين لا يرغبون وزارة هزار الملوك فدبر أنهم إذا وقعت أعينهم على أبي علي تعلقوا به وأقاموه وزيراً فيفسد أمر هزار الملوك. فقام أبو علي ليخرج فمنعه طغج أحد نواب الباب وكان فطناً ذكيا فقال له بزغش: لم تمنع هذا المولى من الخروج فقال: كيف لا أمنعه من الخروج إلى هذا الجمع ولا يؤمن تعلق العسكرية فيقع له ما وقع للآخر. فهزه بزغش وقال له: دع عنك الفضول. وقام بنفسه وأخرجه إلى آخر دهاليز القصر فما هو إلا أن خرج من باب القصر ورآه رضوان بن ولخشي والجماعة وقد علموا أن هزار الملوك قد خلع عليه للوزارة وأنه سيخرج إليهم فتواثبوا إلى أبي علي وقالوا هو الوزير بن الوزير بن الوزير. وأراد أن ينفلت منهم واعتذر أنه شرب دواء فلم يقبل منه وطلب له في الحال خيمة وبيت صدار فضربت في جانب من بين القصرين وأدخلوه فيها. وقام الصالح وثار العسكر بموافقتهم على وزارته والرضا به وصاحوا أن لا سبيل أن يلي علينا هذا الصانع الفاعل وأعلنوا بشتمه. فغلقت أبواب القصر كلها واشتد الأمر فأحضر ضرغام وأصحابه سلالم وأقاموها إلى طاقات المنظرة وأطلقوا عليها أميراً يقال له ابن شاهنشاه فلما أشرف على طاق المنظرة جاء أستاذو الخليفة وأنكروا عليه فعله فقال هذه فتنة تقوم ما تسر فما الذي خلعتم عليه! ويحصل من ذلك على الخليفة من العوام وسوء أدب جهال العسكر ما لا يتلافى وما هذا شيء والله إلا نصيحة لمولانا فإنني قد علمت من رأى القوم ما لا علمتم. أخبروا مولانا عني بهذا. فمضى الأستاذون إلى الحافظ وأبلغوه ما قال ابن شاهنشاه وهزار الملوك بين يديه بخلع الوزارة يسمع القول فقال له الحافظ: ها أنت ذا تسمع ما يقال. فقال: يا مولانا أنا في مجلسك ووزارتي بوصية خليفة قبلك فاتركني أخرج لهؤلاء الفعلة الصنعة. فقال: لا سبيل لفتح باب القصر في مثل هذا الوقت وقد فعلنا في أمرك ما رتب لك وهذه الخلع عليك ولكن قد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: لا رأى لمن لا يطاع. واشتد الأمر وكثر تموير العسكر. فقيل لابن شاهنشاه: قد أجبتم إلى وزارة أبي علي وما نحن له كارهون. فأعاد ذلك على رضوان وأصحابه فقالوا: قل له يسلم لنا هزار الملوك. فامتنع من ذلك وقد تكاثر القوم على سور القصر وعزموا على طلب المذكور ولا بد. فقال الحافظ له. قم واحتجب في مكان عسى ندبر في قضيتك أمراً نصرف به هذا الجمع عنا وعنك. فنزعت الخلع عنه وأحيط به فصار إلى مكان قتل فيه قتلةً مستورة وألقيت رأسه إلى القوم فسكنوا. واستدعي بالخلع لأبي علي فأفيضت عليه في يوم الأربعاء خامسه وركب إلى دار الوزارة والجماعة مشاة في ركابه. فكانت وزارة هزار الملك نصف يوم بغير تصرف. وكان قد اصطفاه الآمر لنفسه هو وبزغش قبل موته بمدة ورد له المظالم والنظر في أحوال الجند وهو نوع من الوزارة وكان ينعت بالأفضل. ووقع النهب في القاهرة من باب الفتوح إلى باب زويلة ونهبت القيسارية وكان فيها أكثب ما يملكه أهل القاهرة لأنها كانت مخزنهم ومذ بنيت لم يكن فيها أمر يكره فكان هذا أول حادث حدث على القاهرة من النهب والطمع. وطيف برأس هزار الملوك على رمح. واستقرت الوزارة لأبي علي أحمد بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي وكان يلقب بكتيفات في يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة. فأول ما بدأ به أنه أحاط بالحافظ وسجنه في خزانة فيما بين الإيوان وباب العيد. ويقال إن رضوان بن ولخشي دخل إليه وقيده فقال له الحافظ: أنت فحل الأمراء. فنعت بذلك. وتمكن أبو علي واستولى على جميع ما في القصر من الأموال والذخائر وحمل الجميع إلى دار الوزارة بعد أن فرق أكثر ما كان الآمر جمعه من الغلال في الناس على سبيل الإنعام. وكان السعر غاليا يباع القمح بنحو الدينار كل إردب فأراد أبو علي أن يحسن سمعته فأمر أن تفتح المخازن وأطلق أكثر ما كان فيها وكانت مئي ألوف أرادب. ورد على الناس الأموال التي فضلت في بيت المال من مال المصادرة التي كان قد أخذها الآمر في أيام مباشرة الراهب وما كتبت به الخطوط قبل ذلك وكان الذي وجد خمسين ألف دينار. فاستبشر الناس به وفرحوا فرحاً ما ثبتت منه عقولهم وضجوا بالدعاء له في سائر أعمال الديار المصرية وأعلنوا بذكر معايب الآمر ومثالبه وأقطع الحجرية البلاد وظهر فرح الناس وابتهاجهم. وأكرم بزغش العادل الذي أشار عليه بالخروج من القصر إكراماً كثيرا. وكانت قد ضربت ألواح على عدة أملاك في أيام الآمر فأعيدت إلى أربابها. وكان إماميا متشدداً فالتفت عليه الإمامية ولعبوا به حتى أظهر المذهب الإمامي وتزايد الأمر فيه إلى التأذين فانفعل بهم وحسنوا له الدعوة للقائم المنتظر فضرب الدراهم باسمه ونقش عليها: الله الصمد الإمام محمد. وخطب بنفسه في يوم الجمعة وكان أكثر خلق الله تخلفا وأقلهم علماً فغلط في الخطبة غلطة فاحشة صحفها فلم ينكر عليه أحد. واشتد ضرره على أهل القصر من الإرعاد والإبراق وأكثر من إزعاجهم والتفتيش على ولد الآمر وعلى يانس صاحب الباب وعلى صبيان الخاص الآمرية. وأراد أن يخلع الحافظ ويقتله بمن قتله الآمر من إخوته. وكان الآمر لما احتاط على موجود الأفضل بعد قتله بلغه عن أولاد الأفضل كلام في حقه يستقبح ذكره فأقام عليهم الحجة عندما مثلوا بحضرته وقال: أبوكم الأفضل غلامي ولا مال له. فسفه عليه أحدهم فغضب وقتلهم. فأراد أبو علي بتفتيشه على الحمل الذي ذكر أنه من الآمر أن يظفر به ليقتله بإخوته فلم يظهر الحمل ولا قدر أيضا على قتل الحافظ ولا خلعه فاعتقله كما تقدم وخطب للقائم المنتظر تمويها. فنفرت قلوب أهل الدولة منه وقامت نفسوهم منه. وتعصب قوم من الأجناد من خاص الخليفة بترتيب يانس لهم وفيها قبض على جعفر بن عبد المنعم بن أبي قيراط وعلى أبي يعقوب ابراهيم السامري ونهب الجند دورهما وحبسا في حبس المعونة ثم أخرجا ميتين. فيها رتب أبو علي بن الأفضل في الحكم أربعة قضاة فصار كل قاض يحكم بمذهبه ويورث بمذهبه فكان قاضي الشافعية سلطان بن إبراهيم بن المسلم بن رشا وقاضي المالكية أبو عبد الله محمد بن أبي محمد عبد المولى بن أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللبني المغربي وقاضي الإسماعيلية أبو الفضائل هبة الله بن عبد الله بن حسن بن محمد القاضي فخر الأمناء الأنصاري المعروف بابن الأزرق وقاضي الإمامية القاضي المفضل أبو القاسم ابن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن أبي كامل. ولم يسمع بمثله هنا في الملة الإسلامية قبل ذلك. في يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم ركب أبو علي أحمد بن الأفضل إلى رأس الطابية ليعرق فرساً في الميدان بالبستان الكبير خارج باب الفتوح من القاهرة وللعب بالكرة على عادته فجاء وهو هناك عشرة من صبيان الخاص الذين تحالفوا على قتله متى ظفروا به جميعاً أو فرادى فصاح أبو علي عادة من يسابق بخيل: راحت فقال العشرة: عليك وحملوا عليه وطعنوه حتى قتل. فأدركه أستاذ من أستاذيه وألقى نفسه عليه فقتلوه معه. واجتمع الأربعون عناناً واحداً وجاءوا إلى القصر وفيهم يانس وكان مستوحشاً من أبي علي فخرجوا الحافظ من الخزانة التي كان معتقلاً بها وفكوا عنه القيد وأجلسوه في الشباك على منصة الخلافة وقالوا: ما حركنا على هذا إلا الأمير يانس. فاجتمع الناس وأخذ له العهد على أنه ولي عهد كفيل لمن لم يذكر اسمه. ونهب في هذا اليوم كثير من الأسواق والدور والحوانيت وصار ذلك عادة مستقرة وشيئاً معهوداً في كل فتنة. وحمل رأس أبي علي إلى القصر. وكان قد أسقط منذ أقامه الجند ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق الذي تنسب إليه الطائفة الإسماعيلية. وأزال من الأذان قولهم فيه: حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر وأسقط ذكر الحافظ من الخطبة واخترع لنفسه دعاءً يدعى به على المنابر وهو: السيد الأجل الأفضل سيد ممالك أرباب الدول المحامي عن حوزة الدين وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين ناصر إمام الحق في حالي غيبته وحضوره والقائم في نصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره أمين الله على عباده وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده ومرشد دعاته المؤمنين إلى واضح بيانه وإرشاده مولى النعم رافع الجور عن الأمم مالك فضيلتي السيف والقلم أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل أبي القاسم شاهنشاه أمير الجيوش. وكانت مدة تحكه سنة وشهراً وعشرة أيام ثم حمل بعد قتله ودفن بتربة أمير الجيوش ظاهر باب النصر. وخلع على السعيد أبي الفتح يانس الأرمني صاحب الباب خلع الوزارة وكان من غلمان الأفضل بن أمير الجيوش العقلاء وله هيبة وعنده تماسك في الأمور وحفظ للقوانين. فهدأت الدهماء وصلحت الأحوال واستقرت الخلافة للحافظ وحمل جميع ما كان قد نقل إلى دار الوزارة من الأموال والآلات وأعيد إلى القصر. ولم يحدث يانس شيئا إلا أنه تخوف من صبيان الخاص وحدثته نفسه أنهم قد جسروا على الملوك وأنه ربما غضبوا منه ففعلوا به ما فعلوه بغيره وأحسوا منه بذلك فتفرقوا عنه. فلما تأكدت الوحشة بينهم وبينه ركب في خاصته وغلمانه وأركب العسكر والتقوا قبالة باب التبانين بين القصرين فقتل ما يزيد عن ثلثمائة فارس من أعيانهم فيهم قتلة أبي علي أحمد بن الأفضل. وكانوا نحو خمسمائة فارس فكسر شوكتهم وأضعفهم فلم يبق منهم من يؤبه له ولا وكانت له في النفوس مكانة فثقل على الحافظ وتخيل منه فأحس بذلك وصار كل منهما يدبر على الآخر. فبدأ الوزير يانس بحاشية الخليفة فقبض على قاضي القضاة وداعي الدعاة أبي الفخر صالح بن عبد الله بن رجاء وأبي الفتوح بن قادوس فقتلهما. وبلغه شيء يكرهه عن أستاذ من خاص الخليفة فقبض عليه من غير مشاورة الحافظ واعتقله بخزانة البنود وضرب عنقه من ليلته. فاستبدت الوحشة بينه وبين الحافظ وخشى من زيادة معناه فقال الحافظ لطبيبه: اكفني أمره بمأكل أو مشرب. فأبى الطبيب ذلك خوفا من سوء العاقبة. ويقال إن الحافظ توصل إلى أن سم يانس في ماء المستراح فانفتح دبره واتسع حتى ما بقي بقدر على الجلوس. فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين قد أمكنت الفرصة وبلغت مقصودك فلو أن مولانا عاده في هذه المرضة اكتسبت حسن الأحدوثة وهذا المرض ليس دواؤه إلا السكون ولا شيء أضر عليه من الحركة والانزعاج وهو كما يسمع بقصد مولانا تحرك واهتم بلقائه وانزعج وفي ذلك تلاف نفسه. فقبل ذلك وجاء لعيادته. فلما رآه يانس قام للقائه وخرج عن فراشه فأطال الحافظ جلوسه عنده ومحادثته فلم يقم حتى سقطت أمعاؤه ومات من ليلته في سادس عشري ذي الحجة. وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما. وترك ولدين كفلهما الحافظ. وكان يانس هذا قد أهداه باديس جد عباس الوزير الآتي ذكره إن شاء الله تعالى إلى الأفضل بن أمير الجيوش فترقى في الخدم إلى أن تأمر وتقدم وولى الباب وهي أعظم رتب الأمراء وكنى بأبي الفتح ولقب بالسعيد ثم نعت في وزارته بناصر الجيوش سيف الإسلام. وكان عظيم الهمة بعيد الغور كثير الشر شديد الهيبة. وفيها استقرت حال الحافظ لدين الله وبويع له بيعة ثانية لما عمل الحمل. قال الشريف محمد بن أسعد الجواني: رأيت صغيراً في القرافة الكبرى ويسمى قفيفة سألت عنه قيل هذا ولد الآمر: لما ولى الحافظ ولي عهده من يولد استولى على الأمر وولد هذا الولد فكتم حاله وأخرج في قفة على وجهها سلق وكرات وستر أمره إلى أن ركب بعد ذلك ووشى به فأخذ وقتل. ولما تمكن الحافظ قرئ سجل بإمامته وركب من باب العيد إلى باب الذهب بزي الخلفاء في ثالث ربيع الأول ورفع عن الناس بواقي مكس الغلة. وأمر بأن يدعى له على المنابر بهذا الدعاء وهو: اللهم صل على الذي شيدت به الدين بعد أن رام الأعداء دثوره وأعززت الإسلام بأن جعلت طلوعه على الأمة وظهوره وجعلته آية لمن تدبر الحقائق بباطن البصيرة مولانا وسيدنا وإمام عصرنا وزماننا عبد المجيد أبي الميمون وفيها صرف أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر عن قضاء القضاة في أول ربيع الأول وقرر مكانه سراج الدين أبو الثريا نجم بن جعفر وأضيفت إليه الدعوة فقيل له قاضي القضاة وداعي الدعاة وذلك وقت العشاء الآخرة من ليلة الخميس لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة. ولما مات يانس تولى الحافظ الأمر بنفسه ولم يستوزر أحداً وأحسن السيرة. ويقال إن يانس لما قتل القاضي أبا الفخر سلم الحكم إلى سراج الدين أبي الثريا نجم بن جعفر. وفيها جهز الحافظ الأمير المنتضى أبا الفوارس وثاب بن مسافر الغنوي رسولاً في الرابع من ذي القعدة بجواب شمس الملوك صاحب دمشق وأصحبه الخلع السنية وأسفاط الثياب والخيل المسومة ومالاً متوفراً. فوصل إلى دمشق وتلقى أحسن تلق وقبلت الألطاف منه وقرئ كتابه. وأقام إلى أن أعيد من القابلة.
وفيها خرج أبو عبد الله الحسين بن نزار بن المستنصر وكان قد توجه إلى المغرب مستخفيا وجمع هناك جموعاً كثيرة وعاد. فبعث الحافظ إلى مقدمي عسكره يستميلهم. فلما وصل دير الزجاج والحمام اغتالوه وقتلوه فانفض جمعه. فيها حشد جماعة من العبيد بالأعمال الشرقية فخرج إليهم عسكر كانت بينهم وبينه حروب. وفيها سلم الحافظ أمر الديوان إلى الشريف معتمد الدولة علي بن جعفر بن غسان المعروف بابن العساف وصرف يوحنا بن أبي الليث لأشياء نقمها عليه وسعوا فيه عنده بأنه كان سبباً فيما عمله أبو علي أحمد بن الأفضل من تفريق ما فرقه من الأموال لأهله وأقاربه. واستخدم الحافظ أيضا أخا معتمد الدولة في نقابة الأشراف وجعله جليسا وكان عنده أدب ومعرفة بعلم الفلك وكان الحافظ يحب هذا العلم. وفيها قبض على ابن عبد الكريم تربية الآمر فوجد له ثلثمائة وستون منديلا مذهبة وعلى مثالها ثلثمائة وستون بذلة مذهبة فكان يلبس كل يوم بذلة. وكل منديل وهي العمامة على مسمار فضة. ووجد له خمسمائة نرجسية ذهبا وفضة ومائتا صندوق فيها ثياب ملونات ومائة حسكة ذهبا وفضة ومن الجوهر ما يعجز عن وصفه. فيها عهد الحافظ إلى ولده سليمان وكان أسن أولاده وأحبهم إليه وأقامه ليسد مكان الوزير ويستريح من مقاساة الوزراء وجفائهم عليه ومضايقتهم إياه في أوامره ونواهيه فمات بعد ولاية العهد بشهرين فحزن عليه مدة. ثم جعل ابنه حيدرة ولي عهده ونصبه للنظر في المظالم فشق ذلك على أخيه حسن لأنه كان يروم ذلك لكثرة أمواله وتلاده وحواشيه وموكبه بحيث كان له ديوان مفرد. وما زالت عقارب العداوة تدب بينهما حتى وقعت الفتنة بين الطائفية الجيوشية والطائفة الريحانية وكانت شوكة الريحانية قوية والجند يشنئونهم خوفا منهم فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين وصاح الجند: يا حسن يا منصور يا للحسنية. والتقى العسكران فقتل بينهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل. فكانت أول مصيبة نزلت بالدولة من فقد رجالها ونقص عدد عساكرها ولم يسلم من الريحانية إلا من ألقى نفسه في بحر النيل من ناحية المقس. واستظهر حسن وصار الأمر إليه فانضم له أوباش العسكر وزعارهم وفرق فيهم الزرد وسماهم صبيان الزرد وصاروا لا يفارقونه ويحفون به إذا ركب ويلازمون داره إذا نزل. فقامت قيامة الناس وقبض على ابن العساف وقتله واختفى منه الحافظ وحيدرة وجد في طلب حيدرة. وهتك بالأوباش الذين اختارهم حرمة القصر وخرق ناموسه من كونه نغص على أبيه وأخيه وصاروا يحسنون له كل رذيلة ويحرونه على أذى الناس. فأخذ الحافظ في تلافي الأمر مع حسن لينصلح وعهد إليه بالخلافة في يوم الخميس لأربع بقين من شهر رمضان وأركبه بالشعار ونعت بولي عهد المؤمنين. وكتب له بذلك سجلاً قرئ على المنابر فكان يقال على المنابر: اللهم شيد ببقاء ولي عهد المؤمنين أركان خلافته وذلل سيوف الاقتدار في نصره وكفايته وأعنه على مصالح بلاده ورعيته واجمع شمله به وبكافة السادة إخوته الذين أطلعتهم في سماء مملكته بدوراً لا يغيرها المحاق وقمعت ببأسهم كل مرتد من أهل الشقاق والنفاق وشددت بهم أزر الإمامة وجعلت الخلافة فيهم إلى يوم القيامة. فلم يزده ذلك إلا شراً وتعديا فضيق على أبيه وبالغ في مضرته. فسير الحافظ وفي الدولة إسحاق أحد الأستاذين المحنكين إلى الصعيد ليجمع ما قدر عليه من الريحانية فمضى واستصرخ على حسن وجمع من الأمم ما لا يعلمه إلا الله وسار بهم. فبلغ ذلك حسناً فجهز إليه عسكراً عرمرماً وخرج فالتقى الجمعان. وهبت ريح سوداء في وجوه الواصلين وركبهم عسكر حسن فلم يفلت منهم إلا القليل وغرق أكثرهم في البحر وقتلوا وأخذ الأستاذ إسحاق وأدخل إلى القاهرة على جمل برأسه طرطور لبد أحمر. فلما وصل بين القصرين رمى بالنشاب حتى مات ورمي إليهم من القصر الغربي أستاذ آخر فقتلوه وقتل الأمير شرف الأمراء. فلما اشتد الأمر على الحافظ عمل حيلة وكتب ورقة ورماها إلى ولده حسن فيها: يا ولدي أنت على كل حال ولدي ولو عمل كل منا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه. ولا يحملني قلبين وقد انتهى الأمر إلي أن أمراء الدولة فلاناً وفلاناً وسماهم له وأنك قد شددت وطأتك عليهم وخافوك وأنهم معولون على الفتك بك فخذ حذرك يا ولدي. فلما وقف حسن على الورقة قامت قيامته. فلما اجتمع أولئك الأمراء في داره للسلام عليه أمر صبيان الزرد الذين اختارهم وصار يثق بهم فقتلوهم بأجمعهم وأخذ ما في دورهم. فاشتدت مصيبة الدولة بفقد من قتل من الأمراء الذين كانوا أركان الدولة وهم أصحاب الرأي والمعرفة فوهت واختلت لقلة الرجال وعدم الكفاة. ومن حين قتل حسن الأمراء تخوفه باقي الجند ونفرت نفوسهم منه فإنه كان جريئا عنيفاً بحاثاً عن الناس يريد إقلاب الدولة وتغييرها لتقدم أصحابه فأكثر من مصادرة الناس وقتل سراج الدين أبا الثريا نجماً في يوم الخميس ثامن شوال. وكان أبو الثريا في أول أمره خاملاً في الناس ثم سمع قوله في العدالة أيام الآمر. فلما قبض أحمد بن الأفضل علي أبي الفخر وسجنه عنده بدار الوزارة وقد كان الداعي أيام الآمر طلب من يكون داعيا فاستخدم نجماً هذا داعياً ولم يقف على ما كان عنده من الدهاء. فلما كان في وزارة يانس جمع إليه الحكم مع الدعوة فلما مات يانس وانفرد الحافظ بالأمر بعده حظي نجم عنده ورقاه إلى أعلى المراتب وصار يدبر الدولة. وحسن عنده نصرة طائفة الإسماعيلية والانتقام ممن كان يؤذيهم في أيام أحمد بن الأفضل فتأذى بهذا خلق كثير وأثبت طائفة سماهم المؤمنين وجعل لهم زماماً قتله حسن بن الحافظ. ولما قتل الشريف بن العباس وأخذ نجم يعادي أمراء الدولة ورؤساءها ولا ينظر في عاقبة وكانوا قد حسدوه على قربه من الحافظ وتمكنه منه ومطاوعته له بحيث لا يعمل شيئا إلا برأيه فلما تمكن حسن بن الحافظ أغروه به فقتله وقتل معه جماعة. ورد القضاء لابن ميسر وخلع عليه في يوم الخميس ثاني ذي القعدة. وفيها مات القاضي المكين أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسين بن حديد بن حمدون الكناني قاضي الإسكندرية بثغر رشيد وقد عاد من القاهرة في جمادى الآخرة ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وكانت له مدة في القضاء وهو الذي كان سببا في اغتيال أبي الصلت أمية الأندلس. وقد ذكره السلفي وأثنى عليه ورثى بعدة قصائد. وفيها مات أبو عبد الله الحسين بن أبي الفضل بن الحسين الزاهد الناطق بالحكم المعروف بابن بشرى الجوهري الواعظ ابن الواعظ ابن الواعظ ابن الواعظ في جمادى الأولى. وكان حلو الوعظ إلا أنه تعرض في آخر عمره لما لا يعنيه فنفاه الحافظ إلى دمياط وذلك أن الآمر لما مات ترك جارية حاملاً فقام الحافظ بعده في الخلافة على أن يكون كفيلاً للحمل حتى يكبر فاتفق أنه ولد وخافت أمه عليه من الحافظ فجعلته في قفة من خوص وجعلت فوقه بصلاً وكراثاً وجزراً حتى لا يفطن به وبعثته في قماطه تحت الحوائج في القفة إلى القرافة وأدخل به إلى مسجد أبي تراب الصواف وأرضعته المرضعة وخفي أمره عن الحافظ حتى كبر وكان يعرف بين الصبيان بقفيفة. فلما حان نفعه نم عليه ابن الجوهري هذا إلى الحافظ فأخذ الصبي وفصده فمات وخلع على ابن الجوهري ثم نفاه إلى دمياط فمات بها. فيها عظم أمر حسن بن الحافظ وقويت شوكته وتأكدت العداوة بينه وبين من بقي من الأمراء والأجناد واشتد خوفهم منه وعزموا على خلع الحافظ من الخلافة وخلع ابنه حسن من ولاية العهد وعزله عن الأمر. فاجتمعوا بين القصرين وهم نحو العشرة آلاف ما بين فارس وراجل وبعثوا إلى الحافظ فشكوا ما فيه من ابنه حسن وأرادوا إزالته عنهم. فعجز حسن عن مقاومتهم ولم يبق معه سوى الراجل من الجيوشية ومن يقول بقولهم من العسكر الغرباء. فتحير ولم يجد بدا من الفرار منهم إلى أبيه فصار إليه وكان قد نزل بالقصر الغربي ففتح سردابا بين القصرين ووصل إلى أبيه بالقصر الشرقي من تحت الأرض وتحصن بالقصر. فبادر الحافظ بالقبض عليه وقيده وأرسل إلى الأمراء يخبرهم بالقبض على حسن فأجمعوا على طلبه ليقتلوه. فبعث إليهم يقبح مرادهم منه أن يقتل ولده وأنه قد أزال عنهم أمره وضمن لهم أنه لا يتصرف أبدا ووعدهم بالزيادة في الأرزاق والإقطاعات. فلم يقبلوا ذلك وقالوا: إما نحن وإما هو. وأحضروا الأحطاب والنيران لإحراق القصر وبالغوا في الجرأة على الحافظ. فلم يجد من ينتصر به عليهم لأنهم أنصاره وجنده الذين يستطيل بهم على غيرهم فألجأته الضرورة إلى أن استمهلهم ثلاثة أيام ليتروى فيما يعمل. فرأى أنه لا ينفك من هذه النازلة العظيمة إلا بقتل ابنه لتنحسم المباينة بينه وبين العسكر التي لا يأمن إن استمرت أن تأتي على نفسه هو فإنهم لم يبرحوا من بين القصرين. فاستدعى طبيبيه أبا منصور وابن قرقة فبدأ بأبي منصور اليهودي وفاوضه في عمل سقية لابنه فتحرج من ذلك وأنكر معرفته كل الإنكار وحلف برأس الخليفة وعلى التوراة أنه لم يقف على شيء من هذا. فتركه وأحضر ابن قرقة وكان يلي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح والسروج وفاوضه في ذلك فقال: الساعة ولا يتقطع منها الجسد بل تفيض النفس لا غير. فأحضرها من يومه وألزم الحافظ ابنه حسنا بمن ندبه من الصقالبة فأكرهوه على شربها فمات في يوم الثلاثاء ثالث عشري جمادى الآخرة. ونقل للقوم سراً: قد كان ما أردتم فامضوا إلى دوركم. فلم يثقوا بذلك وقالوا لا بد أن يشاهده منا من نثق به وندبوا منهم امرأ يعرف بالجرأة والصر يقال له المعظم جلال الدولة محمد ويعرف بجلب راغب الآمري فدخل إلى حيث حسن بن الحافظ فإذا هو مسجى بثوب ملاءة فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه سكينا وغرزه في عدة مواضع من بدنه حتى تيقن أنه ميت وانصرف إلى أصحابه وأخبرهم فتفرقوا. وكان تاج الدولة بهرا الأرمني قد انفلت من حسن بن الحافظ وولي الغربية فلما علم أن النفوس جميعها من البدو والحضر قد انحرفت عن حسن جمع مقطعي الغربية والأرمن والعربان وطلب القاهرة ويقال كان ذلك بمباطنة من الحافظ فما وصل إلى القاهرة حتى غابت حشوده في القرى والضياع ونهبوها. وعندما وصل إلى القاهرة يوم الخميس وقت العصر الحادي عشر من جمادى الآخرة التف عليه من بها من الأمراء والأجناد وأبادوا أكثر الجيوشية والإسكندرية والفرحية ومن يقول بقولهم من الغز الغرباء. ونهب أوباش الناس ما قدروا عليه. ولما قتل حسن وسكنت الدهماء قبض الحافظ على الطبيب ابن قرقة وقتله بخزانة البنود وارتجع جمع أملاكه وموجوده وكان يلي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح والسروج. وأنعم على أبي منصور الطبيب وجعله رئيساً على اليهود وصارت له نعم جليلة. وفيها كانت وزارة بهرام الأرمني النصراني الملقب تاج الدولة. وكان السبب في ولايته الوزارة أنه جرت فتنة بين الأجناد والسودان عندما قتل حسن بن الحافظ قوي فيها السودان على الأجناد وأخرجوهم من القاهرة فإن السودان كانوا مع حسن دون الأجناد فإنهم الذين حملوا أباه الحافظ على قتله. وقدم بهرام بالحشد كما تقدم فوجد حسناً قد مات فمسكه الأجناد بظاهر القاهرة وأدخلوه على الحافظ لدين الله في يوم الخميس بعد العصر الحادي عشر من جمادى الآخرة لتولية الوزارة فخلع عليه في يوم الأحد رابع عشره ثم خلع عليه ثانيا يوم الخميس ثامن عشره خلع الوزارة ونعت بسيف الإسلام تاج الخلافة وهو نصراني مع كراهة الحافظ لذلك لتسكن الفتنة ولم يرد إليه شيئاً من الأمور الشرعية. فلم يدخل في مشكل لأنه كان عاقلا سيوساً حسن التدبير. وتقدم كثير من حواشي الحافظ إليه ينكرون عليه ولاية بهرام مع كونه نصرانيا وقالوا: لا يرضى المسلمون بهذا ومن شرط الوزير أن يرقى مع الإمام المنبر في الأعياد ليزرر عليه المزررة الحاجزة بينه وبين الناس والقضاة نواب الوزير من زمن أمير الجيوش ويذكرون دائماً النيابة عنه في الكتب الحكمية النافذة إلى الآفاق وكتب الأنكحة. فقال: إذا رضينا نحن فمن يخالفنا وهو وزير السيف وأما صعود المنبر فيستنيب عنه قاضي القضاة وأما ذكره في الكتب الحكمية فلا فشق على الناس وزارته وتطاول النصارى في أيامه على المسلمين. وكان هو قد أحسن السيرة وساس الرعية وأدى الطاعة للخليفة وأنفق في الجند جملةً من الأموال ودبر الأمور فاستقامت له الأحوال وراسله الملوك وزال ما كان في البلد من الفتن فلم ينكر عليه سوى أنه نصراني. وكان يقعد يوم الجمعة عن الصلاة فلا يحضر بل يعدل إلى دكان بمفرده حتى يصلي الخليفة بالناس. وأقبل الأرمن يردون إلى القاهرة ومصر من كل جهة حتى صار بها منهم عالم عظيم. ووصل إليه ابن أخيه وكان يعرف بالسبع الأحمر فكثر القيل والقال وأطلق أسيراً من الفرنج كان من أكابرهم فأنكر الناس ذلك ورفعوا فيه النصائح للحافظ وأكثروا من الإنكار. وكان رضوان بن ولخشى حينئذ صاحب الباب وهو شجاع كاتب فبلغ بهرام أنه يهزأ به في قوله وفعله فثقل عليه وأخذ يعمل على إخراجه من القاهرة وولى أخاه الباساك قوص وفيها توفى الأديب أبو نصر ظافر بن القاسم بن منصور بن عبد الله الجروي الجذامي الإسكندراني المعروف بالحداد بمصر.
|